الشامخة

 
 
في مطار “معيتيقة” الدولي ! ، كان طابور الدخول يتلوّى كأفعى مريضة توشك على الموت، زحام، ضيق، إختناق، عرق، رجال وشباب يتدافعون لمحاولة الدخول وسط مقاومة من مسلّحين ذوي وجوه توحي بألف عام من الميزيريا ..
 
ـ تي خش في الطابور يا حمار يا ولد الق*ـبة !
 
ضربة بالعصا أنهالت على ظهر “الدّجيم”، فأطلق صرخة صامتة أبتلعها، قبل أن يعود إلى حيّزه من الطابور !
 
بعد لحظات، سمع الجميع صرخات عجلات سيارة الدفع الرباعي، التي توقفت تماماً بجانب المدخل، لتخرج منها فتاة ذات عباية سوداء، كعب عالي، ووشاح ينتهي من منتصف الرأس مع “قصة” تصل إلى الذقن، وشفاه مكتنزة بالأحمر الفاقع.
 
أحدث نزول كعبها فرقعة، بسرعة أستقبلها أحد المسلحين الشباب بإبتسامة منخورة، دخلت برفقة المسلّح بكل سلاسة، لم تنظر حتى للمتدافعين من الرجال، في حين قال المسلح بشراسة : ” تي وسّع للمدام إنت وإياه ” !!
 
تحسّر “الدجيم” وهو ينظر لما يجري، قال لصديقه المجاور له :
 
ـ ” شفت يا عبدو الجو .. عندها حق .. حتى هيا شامخة !!
 
* * *
 
وقفت “ثريا” طويلاً في مجمع المحاكم وهي ترتعد وتكاد تبكي من جراء الخوف والضغط النفسي التي تعرضت له، رأت محاميها قادم وهو يجر أذيال الخيبة، وعلى وجهه تبدو علامات اليأس، قال حين وصل إليها :
 
ـ ما يبيش يطلّق يا بنتي، سامحيني .. القانون معاه .
 
صرخت فيه ، كيف القانون معاه، أنا نبّي نتطلّق.. معاش نبيه خلاص !
 
قال المحامي وهو يضغط على أسنانه :
 
ـ أنا أنقول تشوفي حد من العيلة يكلمه .. بالك ربّي يهديه .. الصلح خير يا بنتي الصلح خير !
 
كلماته جعلتها تحس بالذل، والقهر، زوجها الذي أذاقها الويل خلال الثلاث سنوات الماضية قال لها بالحرف الواحد ، “مش حنطلّقك .. حنخليك هكي معلّقة” .. ماذا تفعل ، كيف ستنجو ، إنتهت كل حلول الود والتفاهم معه، أصبح يتعمّد إذلالها، القانون والدين والعرف معه، في صالحه، لا أستطيع فعل شيء، وابنتها تشرّدت بينهم، “مش حنطلّقك .. وأعلى ما خيلك أركبيه” ، ولأنه مليشاوي حقير وعلى صلات مهمة بالكتائب، أصبح التهديد بأي ردة فعل علنياً .
 
ولكن عجزها الحقيقي لم يأتي بعد، عجزها الحقيقي بدأ حينما فقدت الأب، تم قتله بطريقة وحشية وهو عائد في الليل حين أعترضه مسلحون لسرقة سيارته فلم يرضخ، تم ربطه وجره لمسافة 7 أمتار قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ملق على الرصيف.
 
“وين بوك .. وين بوك” .. “ما عندكمش راجل في العيلة” ، كلمات تلاحقها في كل مكان، بدون رجل أنت فتاة عاجزة، والعيش في هذا المجتمع يصبح جحيماً، سمع الزوج بموت الأب فأزدادت تهديداته، علم أن لا أحد يحميها، “لو ما رجعتيش الحوش اليومين الجايات حنقتلك ، تسمعي فيا ، بنتك تنسيها”.
 
هرعت يومها لمركز الشرطة لتبلغ عن الواقعة، نظر لها الرجل العجوز قائلاً بخنوع :
 
ـ ما عندي ما نديرله يا بنتي.. هذا واحد واصل ! ، تبّي نعطيك مسدس تدافعي بيه على روحك !
 
خرجت من المركز مذهولة ! ، غير مصدّقة لما يحدث في هذا العالم، ضاقت بها الدنيا، العجز ، السحق ، الضعف .. فجأة سمعت ذلك الصوت الذي يناديها، شاب مليشاوي مسلح قال لها :
 
ـ يا أختي .. يا أختي ..
 
بدون وعي قالت نعم ..
 
ـ “كنت واقف داخل المركز وسمعت اللي صار وتعاطفت معاك ، ومستعد نساعدك” ..
 
ـ “بارك الله فيك.. حتدير فيا جميل مش حننساهولك” .. قالت له وهي تكاد تبكي..
 
ـ أيه طبعاً .. لكن محتاج نعرف منك شوية تفاصيل.. خوذي رقمي توا ولو تجيني الشقة متاعي ممكن نتفاهموا ..
 
نظرت إليه غير مصدقة لما يقول .. لكنها فهمت !
 
* * *
 
في خلال أسبوع ، حصلت على ورقة طلاقها ، مع تعهّد من زوجها السابق بعدم التعرّض لها ، وفي كل مرة كانت المكالمات والتوصيات ترافقها، وأصبحت المنظومة كلها تحترمها، وعجلة الحياة تمضي دوماً بسلاسة !
 
ـ حبّي .. نبّي نوسع خاطري .. أتضايقت !
ـ يا عيون قلبي .. غدوة تلقي سيارة تراجي فيك وتوصلك المطار .. أسبوع في تركيا ..
 
في اليوم التالي، تنزل من السيارة بكعبها العالي الذي يحدث طرقعه، ينظر لها “الدجيم” بحسد ، بينما هي تبصق على الأرض فور ركوبها الطيارة !!
 
“تمت”