الثمن

أنهكتنا الحروب يا سيدي، أنهكتنا الحروب.. ألف عام بعد ألف عام، ولم تتوقّف، حلّ الخراب في كل مكان، مات أطفالنا من الأمراض، جاعت عائلاتنا، وضربتنا رياح القبلي الساخنة، بعد أن تحوّل مجتمعنا إلى صحراء قاحلة مقطوعة الأشجار.

بصعوبة أستطعنا صنع هذه الهدنة، أيام قليلة هي ما منحوها لنا، قبل أن يستأنفوا الحرب من جديد، قبل أن تُقطّع الجماعات والقبائل والمكوّنات أجساد بعضها البعض، قبل أن يلقون بأنفسهم إلى مفرمة الدم التي تكوّنت بأجسادهم.

بضع فتية كنّا، من هنا وهناك، قلّة لا نشكّل أي وزن، بملابس رثّة لكن مختلفة، ولغات شتّى، لكن كان في داخلنا رغبة حقيقية في إيقاف هذه المهزلة، وإنقاذ عالمنا من بؤسه، سمعنا أن الحل يكمن عند أهل الشمال، وتناقلت القصص أن هناك .. في الشمال .. أناس يعيشون بدون حروب .. بدون قتل .. بدون كراهية .. أناس يعيشون معاً في سلام.

لم يتبقّى سوى أيام وتنتهي الهدنة، كل منّا قاد بعض من قومه، وأنطلقنا شاقّين الصحراء الكبرى، ومتلحّفين بشمس صحراءنا التي كانت تصبّ حممها لمعاقبتنا، عبرنا الصحراء بعد أن فقدنا الكثير منّا عطشاً، وعبرنا البحر الأعظم، ومات من مات منّا غرقاً. عبرنا غابات الشمال المتجمّدة ، وسقطت أطراف بعضنا من أجسادها من شدّة الصقيع، حتى وصلنا إلى حضارة الشمال.

بريبة وخوف وإستهجان نظروا إلينا، كانوا يلبسون ملابس نظيفة موحّدة، وكانوا يضعون جميعاً أساور فضيّة لامعة، ركعنا تحت أقدامهم، قبّلنا أيديهم، أرجوكم.. أنقذونا .. أوقفوا هذه الحرب اللعينة، نتوسّل إليكم. أمنحوا أقوامنا الحياة والسلام والراحة التي تعيشون فيها، نظروا إلى بعضهم قبل أن يتقدّم كبيرهم نحوي ويقول بلغته :

ـ ما تطلبونه موجود .. لكنه سيكون خياراً صعبا بالنسبة لكم. فهل أنتم مستعدّون لتقبّل الحل.؟!

أخبرته بلغته التي تعلّمتها من أجل هذه اللحظة :

ـ أرجوك .. خلّصنا .. نحن مستعدون لفعل أي شيء.

ـ تعال معي .

قادنا كبيرهم عبر الجموع حتى وصل بنا إلى ذلك الشيء العظيم .. آلة كبيرة تتوسط ساحة . حيث تتخذ هذه الآلة شكل أشبه بالبوابة الدائرية.

قال لي وللجميع ببساطة :

ـ هذا هو سرّنا . هذه الآلة هي سر السلام . ستدخل أنت ومن معك داخل هذه البوّابة، وستمحى كل الإختلافات التي بينكم.. اللغة .. الثقافة .. المعتقدات .. كلّنا سنصبح شيئاً واحداً ، وعندها فقط .. ستختفي كل الإختلافات .. ويعمّ السلام.

نظرت إلى من جاء معنا ، نظرت لهم متأملاً ثيابهم الرثّة وحالتهم البائسة، ونظروا إلى هم مستغربين..

” يا له من ثمن فادح ” .

أبتسم لي كبير الشمال وقال لي : ها ماذا قررت ..؟!

تقدمّت نحو البوابة .. تقدمّت بخطوات واثقة وعازمة .. تقدمت .. خطوات قليلة وأعبرها .. أقترب .. خطوة واحدة فقط .. خطوة واحدة فقط .. عندها فقط توقفت .

تمت