الشيخ الصادق النيهوم
حينما قلت في مقال سابق أن الصادق النيهوم مفكرّ إسلامي انهالت علي الاعتراضات والشتائم والاتهامات بالجهل وعدم المعرفة والدراية، ولكن قولي هذا لم يأتي من فراغ، بل أن كل من يقرأ النيهوم قراءة متأنية سيكتشف أن النيهوم بالفعل رغم كل كتاباته، فهو لم يدخل بعد دائرة الحداثة، ولم يقطع فكره مع الماضي، بل ظل يدور محاولاً إخراج الحيّ من الميت، وتكرير المعاد وتجميله بدل نقده وتجاوزه، وهو ما سنلاحظه في كتابه “الحديث عن المرأة والديانات”.
وهنا لا أقول إن الصادق النيهوم هو الجويني، بالطبع، فالصادق النيهوم مفكّر كبير وعظيم، ولا يمكن أن تقرأ له كتاباً بدون أن يحفّزك على القراءة، وهو قطع شوطاً كبيراً عن أفكار الإسلام التقليدي، وأسس لوحده خطا جديدا في محاولة فهم الإسلام وإخراجه من إشكالياته الحداثية، ولكن كما قلنا سابقاً في قراءتنا لكتابه “نقاش”، فإن النيهوم مفكّر إسلامي يصرّ على أن ينطلق من الحل الإسلامي وأبجديات مشروعه ونصوصه، وهو بذلك يضّيق الباب على نفسه كثيراً، رافضاً الدخول في عالم أرحب وأوسع.
تبدأ في مطالعة الكتاب، فينبئك عنوان الكتاب “الحديث عن المرأة والديانات” بأن النيهوم سيبدأ في الحديث بنقد لاذع وعقل مجرّد عن مكانة المرأة وحقوقها في النصوص الدينية، وهو ما حصل فعلاً عندما ناقش مكانة المرأة والنظرة الدونية المنظورة لها في التوراة والإنجيل، أما في القرآن فيقول الصادق النيهوم كأي شيخ سلفي يحترم نفسه إن المرأة مكرّمة ومعززة، بل وممدوحة، وقد تمّ إنصافها أشدّ الإنصاف..!! ومن ثم يقول بيقين علمي جدير بلهجة شيوخ الفضائيات، ومن هنا يتضح تحريف التوراة والإنجيل ..!!
لنأتي إذاً لنحلل فكرة الصادق النيهوم عن إنصاف المرأة في الإسلام، ففي مسألة الميراث، يقول الصادق النيهوم في الصفحة 27: “أما بالنسبة للقرآن فقد قررت أولى آيات الميراث فكرة القسمة بين الإناث والذكور لأول مرة في تاريخ الديانات”، وكأن لسان حال الصادق يقول للنساء: “فلتحمدوا الله أن حق الميراث قد أعطي لكم، حتى وإن كانت بقسمة أثنين لواحد، فلا تطالبوا بالمزيد من المساواة، واكتفوا فقد توقف التاريخ”، ففي الكتاب، لم يحاول الصادق حتى تقديم قراءة تجديدية للنص القرآني بخصوص الميراث كما فعل بعض المفسرين المجددين بل سكت وكأن هذا هو قمة الكمال.
أما في مسألة الزواج والطلاق، فيقول الصادق المرأة هي ملك خاص للرجل في التوراة معترضاً على هذا المفهوم، يستطيع أن يطلّقها متى شاء ويطردها متى يشاء، ولكن تغافل الصادق عن ذكر من بعصمته الزواج في الإسلام، ومن يحق له التزويج والتطليق، أليس هو الذكر سواء الزوج أو الأب ؟!، ثم يتابع الصادق نظريته عن المساواة فيقول في الصفحة 39: “فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت إيمانكم”، فإن يشير ـ القرآن ـ إشارة حقيقية إلى أن الاقتصار على زوجة واحدة هو الأصل، أما الجواري والزوجات الأخريات فسوف ينقرض مع الزمن، وهذا ما حدث بالضبط. فقد انتهى عصر الجواري على أي حال، كما أراد القرآن.
لكن لو نظرنا من الذي حقاً أنهى عصر الجواري، أهو النص القرآني أم الفعل البشري ؟!، ولماذا إذن ما زالت بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة تطالب بعودة الجواري والإماء، أليس لأنه موجود بنص قرآني صريح !
بعد هذا الفصل وهذا النقد اللاذع للإنجيل والتوراة حول مكانة المرأة وهو ما أوافقه عليه تماماً، وتجاهل الحديث بشكل صادق وحقيقي مع مشاكل المرأة في الإسلام، يبدأ الصادق النيهوم في الحديث عن المرأة الغربية ومسيرة الحداثة التي خطتها ورأيه فيما حققته.
يبدأ الصادق النيهوم مباشرة بالهجوم على حركة “المساواة” بين الرجل والمرأة فيقول أن أكبر خطأ ارتكبته المرأة هو مطالبتها بالمساواة، فالمساواة لا يمكن تحقيقها إلا إذا تشابهت الأهداف تشابها تاماً، وليس ثمة جدال في أن الأنثى تؤدي مهمة تختص بالإنجاب والرعاية، وكأن الصادق النيهوم يريد أن يقول إن هذه المهمة هي قدر المرأة وهي بها لا حق لها بطلب المساواة.
ومن هنا ينطلق النيهوم ليهاجم أيضاً تعليم المرأة !!، فيقول إن أوروبا أخطأت بتعليم الفتيات ما يتعلمه الأولاد، إذاً ماذا تريد يا شيخ صادق، يقول الصادق إن على الأنثى أن تقدم لها مناهج تعليم مختصة بإدارة الأسرة وتربية الأطفال.. أي بمعنى آخر فالنيهوم يريد وضع نظام تعليمي يكرّس لمهمة المرأة التقليدية وهي تربية الأطفال والإنجاب، وهو كما يقول في الصفحة 61، ما حاجة الفتاة لتعلم الحقائق العلمية كغليان الماء في درجة 100 أو أن المطر ظاهرة من ظواهر الضغط الجوي، لا معلومة حقيقية مجدية للمرأة بالنسبة لسنواتها القادمة !!، كارثة حقيقية يسوّق لنا الصادق النيهوم وهي إبطال خلق المنهج العلمي في عقل المرأة وتكريسها كمخلوق درجة ثانية تربي وتنجب، ولكن لا تفكر !!
والصادق النيهوم يقول بالنص: “ثم اكتشفت أوروبا أننا عندما حرمنا نساءنا من”العلم“لم نكن أكثر بربرية من مدارسها التي أغرقت المرأة في ذلك العلم” ! صفحة 62..
ومن هذه النقطة يهاجم الصادق النيهوم النظام التعليمي المتطوّر التي انتهجته ليبيا أيام المملكة في الستينات، وهو يقول “وبالنسبة لمناهج التعليم التي أتيحت للمرأة في بلادنا فنحن لابد أن نتفق على وصفها بأنها مجرد نسخة لمناهج أوروبا، تهدف لتحقيق نفس الهدف، وتواصل ارتكاب نفس الأخطاء” .. ويبرر الصادق هذا الهجوم بأن “البيت الليبي ما يزال أمياً” .. والأب والأخ لا يثقان بالبنات، وأمها لا تفهم كيف تكون الفتاة حرة فينمو الصراع داخل البيت وتقف البنت وحدها ضد كل أفراد العائلة..ويقول النيهوم بالنص “المرء يستطيع أن يلاحظ بيسر أن أحزان تلك الفتاة كانت ستبدو أخف وطأة لو أنها لم تذهب إلى المدرسة على الإطلاق”. وأنا هنا أتفق مع النيهوم على أحد الحلول التي أوردها في كتابه وهو فرض مناهج تقدمية على الكبار في مدارس العمال، لكن أن يكون الحل هو تحجيم دراسة المرأة لتتوافق مع “أمية البيت الليبي وثقافة مجتمعه الرجعية” فهو حل المشكلة بقلبها رأساً على عقب فتزداد تعقيداً “ووين وذنك يا جحا” ..
نعم، إننا نتفق مع الصادق النيهوم أن تاريخ اضطهاد المرأة هو تاريخ قديم قبل حتى الأديان، تاريخ بدأ منذ قانون حامورابي وعادات قرطاجنة والبدو العرب ثم جاءت الديانات لتحسن الشروط مقارنة بما سبق، وهكذا هي الحياة في تطوّر مستمر لا يتوقف في النضال لكسب الحقوق والحرية والمساواة، لكن الصادق النيهوم قد سكت وصمت حينما وصل إلى زمن ما، وتوقف عن مسيرة التحديث فهاجم الحداثة، وأعلن توقف التاريخ ونهايته، فأصابته الرجعية، واستحق عن جدارة أن يوصف بالشيخ الصادق النيهوم.
أحمد البخاري 2 مايو 2015