الرسالة
منذ إنتقالي إلى ألمانيا، والعلاقة بيني وبين صندوق البريد علاقة معقّدة ومتشابكة، بالطبع لشخص مثلي قادم من مكان ليس فيه هذه الإمكانية، واجهت صعوبة في البداية في تلقّي كل هذه الرسائل، لكنّي في النهاية تصالحت مع صندوق بريدي، وتقبّلت وجوده في حياتي بشكل نهائي.
لكنّ قصة غريبة حدثت لي في بداية مجيئي إلى هذا البلد، لم يكن قد مضى على وصولي بضعة أسابيع حينما رنّ جرس الباب، فتحته لأجد شخص نحيل يحمل ورقة في يده مبتسماً، ليخبرني كلاماً بالألمانية لم أفهمه.
قلت له بالإنجليزية :
ـ Excuse me. I don’t speak german ” أعذرني، لا أتحدث الألمانية..!”
عندها قال لي بإنجليزية ركيكة :
ـ هذه رسالة مهمة لك هير بوكاري .. أرجوا أن توقع بالإستلام والموافقة..
نظرت للورقة، كانت مكتوبة باللغة الألمانية بالطبع، لم أستطع فهم أي شيء، طبعاً العديد من الأصدقاء قد حذروني فور وصولي من توقيع أي شيء بدون معرفة، الشركات هنا والدعايات يرغمونك على الإشتراك معهم في أشياء بعقود لمدة سنتين وثلاثة دون أن تدري عنها شيء.
قلت له بإبتسامة حاولت جعلها لطيفة بقدر الإمكان :
ـ أعذرني، ولكني لن أوقّع على شيء لا أفهمه.
بدا عليه الضيق وهو يقول :
ـ لكنه عرض ممتاز لك مستر أهمد .. إن شركتنا هي أفضل شركة هنا على الإطلاق.. معنا أنت رابح بكل تأكيد.
( شكراً لك ) ، ثم أغلقت الباب بكل رفق.
إلى الآن تبدو الأمور عادية جداً، موقف قد يحدث لك كل يوم، لكن الموضوع قد بدأ يأخذ منحنى غريب، حينما كنت عائداً إلى شقتي صباح اليوم التالي، ووجدت نفس الشخص ينتظرني على باب العمارة.
كان يسد الباب، وفي أول لحظة رآني بها هرع إليا وأنا أهمّ بالدخول :
ـ مستر أهمد .. أرجوك أن تسمعني.. هذه رسالة مهمة لك.. لابد أن تستلمها.. لقد أرسلها مدير الشركة لك شخصياً .. هو رجل مهم مستر أحمد.. ربّما أهم وأفضل رجل هنا.. أنه..
لم أقم بإجابته.. فقط واصلت طريقي ودخلت الشقة، وكان من الواضح أنه كان غاضباً لتجاهلي له..
ماذا عليّ أن أفعل، هل أتصل بالشرطة، يبدو الموقف عابراً، وربّما أدخل نفسي في حرج، رغم أن الشرطة هنا مرحبّة، ومستعدة للتفاعل مع أقل مشكلة، لكنّي أستبعدت الفكرة من رأسي.
وبالفعل، بعد تلك الحادثة، مرّ يومان في سلام دون أن يظهر الرجل مرّة أخرى، حتى ذلك اليوم، عندما كنت ذاهباً في ساعة متأخرة لشراء شيء من سوبرماركت الحي.
في البداية لم أتبيّن ملامحه، لكن عندما بدأت في الإقتراب من ذلك الشخص القادم من الإتجاه المعاكس للشارع عرفته، كان عقلي يعمل بسرعة، ماذا علي أن أفعل، هل سيكون من المبالغة أن أعود هارباً، أم أجعل الأمور تبدو إعتيادية فأمرّ بجانبه دون أن ألفت إنتباهه.
قررت ألا أفعل شيئاً، ولكن عندما أقتربت مسافة كافية منه، عرفت أن قراري كان خاطئاً، عندما لمحت السكين المشحوذ في يده، ونظرة الحقد والغضب في عينيه، وفي لحظة ما، وبدون وعي، بدأت الركض، وفي نفس اللحظة أنطلق هو أيضاً في الركض ورائي محاولاً طعني.. وهو يصرخ :
” قلت لك ستندم مستر أهمد .. رفضت تلقي الرسالة .. لن أقتلك .. سأقوم بتعذيبك “..
كان في أقصى درجات الجنون والخبال، ولكن لحسن الحظ، كنت الأسرع.. وبدأت المسافة بيني وبينه تتسع، حتى تعب هو وأنهك، وأستسلم في النهاية، وتخلى عن ملاحقتي.
وصلت لبيتي لاهثاً.. وأنا أقول لنفسي.. وات ذا فاك.. ما هذا الجنون.. من هذا المخبول اللذي يلاحقني.. ورغم كل شيء، لم أتّصل بالشرطة.. قررت تأجيل الأمر لصباح الغد.
بعدها بأسبوعين أتصلوا بي الشرطة قائلين :
ـ أهلاً هير بوكاري، أحببنا أن نطمئنك أننا ألقينا القبض على الرجل اللذي لاحقك منذ أسبوعين، لقد إتضح إنه مخبول ويعاني من أضطرابات عقلية، وأنت لم تكن الضحية الوحيدة له في المنطقة. شكراً لإبلاغنا عموماً.
بعدها بسنتين، كنت عائداً كالعادة إلى شقتي بعد يوم عمل طويل، فإذا بي ألمح على الرصيف ورقة ملقاة تبدو مألوفة لي، إلتقطت الورقة بإستغراب فعرفتها فوراً، كانت تلك الرسالة التي حاول ذلك المخبول منذ سنتين إعطائها لي، قرأت هذه المرّة محتواها بكلّ سهولة، لم أستطع كتمان ضحكتي ( هاهاهاها )، ضحكت بصوت عالي، يا للتفاهة، ألقيت بها في سلة المهملات، ثم صعدت.
( تمت ) .