الفصل الأول : العاهرة
نزّ الدم من قدميه من جديد ، وهو يصعد الجبل الصخري بقدمين حافيتين، نظر للأسفل، ورأى الدم يلوثّ الجبل الطاهر، كانت الرياح تصفّر في الصحراء الشاسعة التي لا منجاة فيها لمخلوق، والدرب الذي سلكه بدأ يختفي من الإرتفاع ، قارب الصعود على الإكتمال، وعندما وصل حافة الجبل، نظر لأسفل مرة أخرى ليرى الهوة الساحقة التي تناديه، رفع رأسه مرّة أخيرة للسماء وأنصت ، علّه يسمع الصوت مرّة أخرى، لكنّه لم يسمع شيئاً ، صمت تام ، عندها .. تقدّم خطوة للأمام.
* * *
كان الصادق ينظر لي وكأنّه يخشى أن يحمل عنّي هذه الصخرة التي تسحقني من عُلي، عيناه تدوران بشك في حركات متكررة كالبندول، وحين يحمل سيزيف صخرته، يصبح لوهلة العالم بطعم الضباب، لا يٌرى، وها أنا لا أرى شيئاً سوى مقعد رث أجلس فيه مقابل صديق غير قادر على حملها معي، غير قادر على المساعدة.
“الموضوع صعب ومعقد” ، الصادق يحاول أن يكون حذراً في معالجة المسألة، “أقول لك طردتني يا الصادق .. طردتني من الحوش” ، نعم ، زوجتك طردتك من المنزل ، فهمت ، يقولها بعينيه، “لكن حاول أن تستوعب الموقف .. اللي تقول فيه صعب يتصدق .. حتى أنت حمّلت أعصابها هلبا ” ..
لم أطلب منها تصديقي ، طلبت منها أن تستوعبني !!
“وشن نصحاتك .. !! ”
لست مجنوناً، لا يعلم الصادق أن هذه الطريق قد مررت بها، أشهر من الصراع مع النفس اللوامة، أشهر من الصراخ على الهاوية، أشهر من صعود الجبل، ودحرجة الصخرة، أنا أعلم ، إنها لعنة التقدّم، إنها لعنة العقل منذ تأسيسه وأزمته وإفلاسه، لست محتاجاً لدجالين ولا فلاسفة ولا أطباء نفسيين، أحتاج لمن يفهمني، أحتاج لمن يأكل لحمي ويشرب دمّي، ويصبح أنا ، ليستمع لما أستمع، ويحس بما أحس، لا أحتاج لمن يصدقني، أحتاج لمن يؤمن بأن ما أقوله حقيقة، ولو كذباً .
لكن حركتا عينا الصادق تدوران بلا تصديق، تتدحرجان من النظر لي ، هو أيضاً لا يصدقني ولا يؤمن بي، أنا أيضاً لم أصدق نفسي في البداية، لكن هذه الصخرة التي وضعت فوقي، لا مفّر من حملها لنهاية الطريق.
لا أحد يختار صخرته ، أنا لم أختر صخرتي ، لكني حملتها رغم كل شيء .
* * *
ها أنا بعد طردي من ملكوت زوجتي، أجلس في هذا المكان الضيّق المتّسخ، صور متناثرة لأناس بائسة تتظاهر بالسعادة، كراسي بلاستيكية متآكلة، طاولة ألومونيوم وستائر مهترئة، أربعة حيطان وسقف تمّ بنائهم كيفما أتفق، بعد أن راجت فكرة تحطيم البلكونات الأرضية في هذه المنطقة وتحويلها لدكاكين أشبه بمقابر ، يغلفها من الخارج أبواب حديدية غير مطلية ومخززة، وتطّل على مسارب أرضية لمياه المجاري المتسربة من فتحة سدّت بسبب الإهمال، فأطلقت رائعة أعتاد عليها كل من يسكن الحي.
“حي الروس”
أتجوّل محاولاً إيجاد المكان داخل الذاكرة، انظر حولي فأجد البراريك الخشبية والزوائد الحجرية التي خرجت كتالولات لعمارات الحي التي كانت أشبه بمكعبات التركيب، لكن المكعبات تبدو متسخة باهتة الألوان، كأن طفلاً من عائلة قذرة لعب بها لسنوات، “حي الروس” ، أنظر حولي فلا أجده، تلاشى ما كان في الذاكرة، وركُب عوضاً عنه نسخة مشوّهة، أشبه بإنعكاس جحيمي لـ جنة كانت موجودة فأنقلبت إلى النقيض بسبب لعنة ما ، أصوات الخراف المعتقلة في هذه القيتوات تطلق أنينا تعلن فيه عن ألاعيب الصدفة العشوائية التي وضعتها في هذا المكان، صوت الديك المخنوق لا يخدع الدجاجات السارحة بإدعاء الفحولة والسيطرة في هذا البؤس، وعواء الكلاب التي أكلها الجرب والضرب، تقدّم صورة حية على قسوة طبقات هذا الجحيم الدانتي.
“مصوراتي الخوجة “
أدخل محاذراً الدوس على أي عفن، فأجد الصادق جالساً منتظراً القادمين بنظارة سميكة لم يكن يملكها، يرفع رأسه غيّر مصّدق رؤيتي، تجسدت أمامه كمخلوق طرد من العالم الآخر، بعد كل هذه السنوات ؟ ، فرك عينيه ، تأكد من الرؤيا ! ، نهض من مكانه ، قال لي : إجلس !.
* * *
رأيت الصادق لأول مرة طفل يخشى أن يخرج من عمارته، كان عمري بضع سنوات عندما إنتقلت مع أمي وسكنّا “حي الإسكان العسكري” أو ما يعرف حالياً بـ “حي الروس”، جاءت التسمية بسبب تخصيص هذا الحي وبناءه من الأساس ليعيش فيه الخبراء الروس العسكريين الذين أتت بهم المنظومة وقتها من الإتحاد السوفيتي في خضم الحرب المستعرة بين المعسكرين في العالم، ولمساعدة المنظومة على بناء بعض القواعد والمنصات الصاروخية للدفاع الجوي، وأيضاً لتدريب الكوادر المحلية. وعندما أتينا للعيش أواخر سنة 1985 ، كان الحي في أغلب سكانه روس، مع بعض الضباط من السودان الذين كانوا يمثلون المعارضة ضد النميري ، وتوفر لهم المنظومة الملجأ ، أيضاً كان هناك قلة من الضباط السوريين والخبراء الصينيين والكوريين، أما بالنسبة للعائلات الليبية، فكنّا من أوائل من قدموا ، وكنّا نعد على أصابع اليديين، إذا ما تجاهلنا بعض الضباط الليبيين القادمين من خارج العاصمة، القادمين لمدة ستة أشهر فقط للتدريب أو أكثر قليلاَ، فيتم إسكانهم في بعض الشقق الفارغة، نادراً ما كانت هذه العائلات تتحدث أو تلقي حتى التحية، أحياناً يأتون ويرحلون بدون أي كلمة، كانوا يفرضون على أنفسهم العزلة، كنا لا نرى إلا رجالاً متجهمين يدخلون ويخرجون من الشقق، دون أن نرى أي نساء أو أطفال، كأنهم يخشون شيئاً ما ، ثم في النهاية يخرجون كسمكة ألقيت خارج البحر فوجدت طريق العودة.
رأيت الصادق لأول مرة طفل خجول ينظر لي، طفل بنيّ الشعر يلعب وسط بحر من الأطفال ذو الشعر الأشقر، بدا ككوز ذرة أحرقته الشمس وسط حقل من سنابل القمح الذهبية، ألتقت عينانا فبدا أن كل واحد فينا ينظر لنفسه في المرآة، وعرفنا أننا سنصبح بعدها أصدقاء .
* * *
حينما تتحدث عن “حي الروس” في الثمانينات ، فأنت تتحدث عن بلدة روسية أنتقلت بمعجزة ما مع كل سكانها لتجد نفسها في قارة أخرى ، وفي الصباح الباكر، كانت تفتح البوابة، فتدخل الباصات الثمانينية المفلطحة، لتقل سكان البلدة الروسية لأعمالهم خارج أسوار البلدة، وكمشهد سينمائي تدور أحداثه في زمن الإتحاد السوفيتي البارد، يقف الباص بكل إنضباط، يأتي المواطنين بأزيائهم المميزة الكاكية ليستقلوا الباص بطوابير منتظمة، وروتينية يومية.
مع الساعة الرابعة مساء ، تعود الباصات مجدداً لتغزو الحي، مفرغة سكانه ليعودوا إلى مكعباتهم الدافئة، كان الحي في ذلك الوقت ـ لو ألقيت نظرة من الأعلى ـ يبدو أشبه بأحد أحياء اللعبة الشهيرة (الليغو)، التي كانت تباع قديماً في الأسواق الشعبية، كانت العمارات تتكون من قطع تركيب متشابهة الشكل، أطلق السكان المحليين عليها “عمارات تركيب”، وهي بالفعل تم بناءها بتكريب الشقق فوق بعضها بشكل منفصل، بالإضافة إلى ذلك، كانت الشوارع متناسقة ونظيفة بشكل دائم، وعلى جوانب كل عمارة، كانت توجد الأشجار الفاصلة والزهور التي تزين جوانب الطريق، وفي وسط الحي كان يقع ملعب كرة القدم وملعب كرة الطائرة، ومضمار لممارسة رياضة الجري.
لكن ما يجعل الأمر يبدو، وكأنه مشهد صوّر في أحد أستوديوهات موسكو السينمائية، أو في مسفيلموفسكايا ستريت، هو خروج السكان في لحظة واحدة كل يوم خميس بشكل جماعي، وبساعة معينة في عصر ذات اليوم، للإعتناء بحدائقهم وسقايتها وتنسيقها، وتبادل بعض الأحاديث الودية مع الجيران، كل يوم خميس، في نفس اللحظة، يخرج الجميع من عماراتهم، لينظفوا أمامها، ويرشوا الماء على الشوارع، ويقوموا بجمع القمامة كلهم بشكل جماعي للتخلّص منها مرة واحدة، وفي وقت واحد، وسط دهشة وإعجاب القلة الغير روسية في الحي.
وفي مساء كل يوم، وبعد يوم عمل شاق، كانت الأسر الروسية تجتمع أمام برامج التلفزيون الروسي، أو ما كان يعرف بتلفزيون الإتحاد السوفيتي USSR ، الذي كان متاحاً بسبب طبق صناعي أسود كبير في وسط الحي ، وفرته الحكومة الليبية لهم، في الوقت التي كانت الصحون الفضائية والأنتينات ممنوعة على المواطنين الليبيين، وكان تركيب صحن فضائي بدون تصريح من تبعيتك للأجهزة الأمنية هو جريمة قد يكون ثمنها باهضاً، ومع ذلك كان المواطنون يتحايلون ويقومون بصناغة أنتينات محلية عن طريق لف بعض أسلاك الألمونيوم وثنيها على هيئة “بكلاوة”. لكن للأسف هذه البكلاوة كانت ذو إمكانيات محدودة ، ولم تكن تلتقط إلا بعض قنوات تونس وإيطاليا.
أما في الشقق الروسية، وعلى كنبه مريحة غالباً ، كان الأطفال يجلسون ليشاهدوا المسلسل السوفيتي العلمي المخصص للأطفال “ضيف من المستقبل” ، وهو مأخوذ من رواية روسية معروفة بعنوان “بعد مئة سنة من الآن”، أشتهرت في نهاية السبعينات أو يشاهد الكبار الممثلة الجميلة “إيرينا ألفيوروفا” في مسلسل ” مخول بالتصريح” الذي يجسد صراع الـ KGB مع CIA في خضم الحرب الباردة ، أو يقطع البث بشكل عاجل ، لنقل آخر خطابات رئيس الحزب الشيوعي السوفيتي “ميخائيل غورباتشوف”.
أما في ليالي نهايات الأسبوع ، الويكند، فإنك تستطيع بكل سهولة سماع صخب السكان وهم يحتلفون بالخارج، تخرج جميع الأسر للتجمع بجانب العمارة، تخرج السيدات ذو التنانير الطويلة بعض الأطعمة والمشروبات ، وهنّ يتبادلن الضحك والإبتسام، يخرج أحدهم آلة كاميرا كبيرة يبدو أنه خبير بتشغيلها ، لتصبح المساحة الجانبية لحائط العمارة كشاشة عرض يتم إستعمالها لتشكيل صالة سينما مفتوحة بشكل مبتكر ، يجلس الجميع على مقاعد ومفارش أحضروها ليبدأ عرض الفيلم، أحياناً كان بعض السكان المحليين يأتون من بعيد ليشاهدوا، فلا أحد يمانع، أتذكر أني شاهدت أحد تلك العروض، لا أتذكر ما شاهدت، لكنّي أتذكر تلك الإضاءة الكبيرة التي أسرتني ، وهي تنعكس من الحائط على عيناي.
* * *
خلال مكوثي في شقة “الصادق” ، كنت أستيقظ كل يوم صباحاً لأجده ما زال يغط في نوم أصحاب الكهف، أترك الكهف بمن فيه علّي أرى أكثر من الظلال المنعكسة، وأخط السير في الحي بجولة تنتهي بالبحث عن شيء أرتشفه ليعيد لي توازني الذي فقدته عندما لفّ العالم حول مركزي، أبدأ جولتي بين العمارات التي شهدت طفولتي محاولاً أن أتجنب ما عرف لاحقاً بحي المختشة حتى لا أصبح ضحية لضحية أخرى، يرمقني أحد الجيران بنظرة عدوانية وهو يرمي كيس القمامة الصباحي بجانب العمارة كأنني السبب في مأساته اليومية، يسقط الكيس على الأرض فتتبعتر محتوياته في رأسي، أنتهي من إفطاري وأستعادة توازني، تترتب محتوياتي من جديد، يملأني الفراغ فأعود لشقة الصادق ودكانه من جديد، في طريق العودة، أنظر مرّة أخرى إلى أكوام القمامة التي تحيط بكل عمارة، الطوب الأبيض المحترق، والصحون الفضائية الخارجة من كل نافذة كعيون تنظر لك في عدوانية.
قبل أن أصل للشقة من جديد بأمتار، لمحت “نادية” وهي قادمة من بعيد، ميكاب مبالغ فيه في الوجه، وشاح يظهر نصف الشعر، جلابية سوداء رقيقة تظهر عند المسير سروال أمريكاني مشحوط على حوض على شكل قلب، ومستكة يتم مضغها بشكل بهلواني لفم ذو شفاف منتفخة.
“صباح الخير” ، تقولها لي وهي تنظر لي نظرة ألعوبانية بعد أن عرفت أنني صديق ولد خوجة، تقف أمام محل المصوراتي ، تنحني أمامي لتعالج القفل التحتي مبرزة بشكل متعمد مؤخرتها الكبيرة، كان يمكنها أن تنزل بجسدها بطريقة لا تلقي بي في أتون الجمر، لكنها أختارت الطريقة الأصعب بالنسبة لي.
تدلف المحل ، “أتفضل ما تتحشمش” ، تتبعها بضحكة مبتذلة تدعوني فيها للدخول، نادية ، العاملة في المحل في الفترة الصباحية، والمسؤولة عن تصوير ” النساوين” ، وحفلات الأفراح والتخرج، أحياناً أرفض الدعوة عائداً للشقة، وأحياناً أقبلها لإشباع فضولي في مراقبة الناس، ولإيقاف أفكاري والعالم الذي يلف.
يبدأ الناس في التوافد شيئاً فشيئاً ، كقطرات صنبور يبدأ في التدفّق، حتى ينفلت بشكل كامل، أحياناً تجد أناس ينتظرون المحل ليفتح منذ الصباح، صورة مستعجلة لابد من تسليمها اليوم، تراهم يهتزون في أماكنهم، وكأن مثاناتهم ستنفجر، أناس من جميع الأجناس، عجائز بفراشيات، رجال مشغولون بربطات عنقهم، فتيات متصابيات، شباب كأنهم قادمين للإستمناء، شيوخ كأنهم يستعدون للدخول لماخور، نادية تخدم الجميع، تشيك ، تشيك، بكل سرعة وبدون تباطئ، جدية في عملها، وبوجه متجهّم غالباً، تشيك، تشيك، إلا لبعض الشباب الذين يظهرون بعض الثراء، عندها تكون هناك إبتسامة، جسد مسترخي ذو إنحناءات، وربما بعض الكلمات التي تحاول خلق حديث، تشيك.
* * *
في الأحيان الأخرى، أفضل فيها الخيار الزمني الآخر وهو العودة للشقة، ورث “الصادق” هذه الشقة من أبيه الأستاذ ” يوسف الخوجة” ، في الستينات كان الأستاذ يوسف معروفاً بكونه أحد كبار التجار في البلاد، وكان يسكن في فيلته الشهيرة في منطقة “قرقارش” التي كانت يلتقي فيها كبار الساسة والمثقفين ومفكري البلد في صالونه الثقافي الذي كان يحييه، في المساء كان رجال الصفوة يأتون ببدلاتهم الأنيقة وأحذيتهم اللامعة ليجلسوا في الصالون، حيث تحتد النقاشات وتتصاعد الأدخنة المنبعثة من غلايينهم الخشبية، لكن بعد إنقلاب السّلم، وفي فترة السبعينات، حدثت مجموعة من القوانين التأميمية ذو الطابع الإشتراكي أهمها كان قانون 88، و أيضاً قانون 4 الشهير، وهو القانون الذي أطلق يد الجماهير بالزحف على أملاك المواطنين بحجة العدالة الإجتماعية، بحيث لا يمتلك أي مواطن أكثر من عقار، تم تجريد عائلة الصادق من كل شيء تقريباً، كل ما بنوه بجهدهم وعرقهم ومكانتهم أختفى في لحظة ، لم يصمت الأستاذ يوسف في البداية، وحاول أن يشتكي، لكنه أتهم من قبل جيرانه بأنه معادي للثورة، وفي النهاية قرر الأستاذ يوسف الإستسلام للتيار والزمن، وأشترى في شقة في في بداية الثمانينات بحي الروس للإبتعاد عن المشاكل.
يستيقض الصادق بعد كل هذا، وكأنه كان نائماً ثلاثمئة سنة وبضع سنين، يرى العالم فلا يعرفه، يراه بنظرة خاوية، يخطو في الشقة كأنه ولد للتو، يستعيد نشاطه برحيق شجرة الأرابيكا، قبل أن يستأنف نشاطه على جهار الكمبيوتر القديم الموضوع في منتصف الصالة.
للصادق هواية غريبة، وهي تجميع صور كل نساء المنطقة بدون حجاب، كل أمرأة صورتها نادية بدون حجاب، كل حفل زفاف، كل فيديو تمّ تصويره لدخلة عروسة أو حفلة صالة أو لمّة أو حتى حفلة حمّام، يدخل الصادق لكل صورة بسهولة، يقوم بقصّها، معرفة هوية الموجودات فيها، ترتيبهم في مجلدات على جهازه، بحسب مكان السكن والعائلة والعمارة.
عندما رأيت ما يفعل ، أخبرني وهو ينفث دخان سيجارته بتركيز، “ما تفهمنيش غلط”، يواصل قص وترتيب الصورة، ” ما عنديش شذوذ سلوكي، أو إنحراف جنسي، أو ندير في ماستربيشن عليهم، أنا بس نرد فيهم لطبيعتهم ، أنا بس نعيد في ترتيب العالم زي ما مفروض في مخيلتي يكون”.
” ترتيب العالم كما يجب أن يكون ” ، إزاله هذا القبح عن المجتمع، قبح عبودية العفة، وأدعاء الشرف، التحرر من هذا الحاجز الذي يختبيء الجميع وراءه ظاهرياً، بينما يتحررون في الخفاء منه، والأمانة ؟؟!، أنهم ينافقون أنفسهم، بل إنهم لا يحترمون أنفسهم، أنا أرجع لهم أنسانيتهم داخل عالمي الخاص.
في عالم الصادق الذي بناه داخل مجلدات الكمبيوتر، تبدو جميع النساء سعيدات، مبتسمات وهنّ يتصورن بدون حرص أو تقيد أو خوف، مزهوات بجمالهن، فرحات وهن يتراقصن بحرية في أفراحهن، ولحظات إنطلاقهن.
” هذا ما يجب أن يكون” يقول لي الصادق، هذا ما يجب أن نراه في الشارع، عالم بلا خوف، بلا تجهّم ، بلا حرص، بلا تحفظ، وعلاقات إنسانية طبيعية، بلا زيف، بلا بلادة، لكنه للأسف ، لا يوجد إلا هنا.
ما الذي يحاول الصادق أن يفعله، أيحاول إستعادة صورة من زمن ما ، أو حلم ما ، لا أدري ، ينهض الصادق متثاقلاً من جهاز كمبيوتره، يسحق سيجارته بعد أن نفث آخر نفس فيها، يطفيء الجهاز، يخرج للمحل، يقف وراء البنش، يبتسم متصنعاً لأول زبون يدخل.
* * *
مع الدقائق الأولى لهبوط الشمس بدرجة تحجبها عمارات حي الروس، تخرج الروسيات بفساتينهم المكوية مع أطفالهم للتنزه قليلاً والشعور بالهواء البارد الذي حمله أجواء العصرية، أحياناً كنا نرى سيدتان تدردشان وهنّ يجران تلك العربات المخصصة للرضع “الكروسات” بشكلهم المستطيل ودواليبهم الكبيرة المصنوعة من الألمونيوم والمميزة لحقبة الثمانينات، وفي حين تتزيّن الطفلات الصغيرات شعورهن بالخيوط الملونة “النسطروات” ، تجد الأطفال الذكور يلهون بشرطاتهم القطنية الكاكية التي تتشابه في أغلبها.
في تلك العصرية، وأمام العمارات، ينشغل البعض بجمع بعض الألواح في الخارج، لدقّها وصنع بعض الكراسي الخشبية أو منضدة يجلسون حولها، أما الضابط الصيني “جين ماو”، والذي يسكن الشقة المقابلة لعائلة ” الصادق” ، فكان يخرج كل يوم لعمل شيء ما في سيارته.
وكما شاهده الصادق ، كان الجار الصيني يخرج من شقته، كل يوم، لمدة نصف ساعة ليقوم بصيانة شيء ما في سيارته الرينو ستة، المميزة بمارشتها المرتفعة والمرتكزة في قلب فودرة السيارة بجانب الستيرسو، كل يوم، شيء ما ، ينظف مرة الإطار ، مع تزييت الباطينيات، والدادوات ، وتشحيمها بشكل كامل، اليوم التالي، الإطار الآخر، اليوم التالي ، تزييت الباب، اليوم الذي يليه، المحرك، كل يوم يخرج بصندوق العدّة الخاص به، والمقعد الصغير الذي أحضره من الصين، للإعتناء بالسيارة، وصيانتها بشكل يومي.
وبحكم القرب، تكونت نوع من الصداقة بين أسرة الأستاذ يوسف، وأسرة الضابط الصيني، ” هالو مستر يوسف” ، يحيي “جين ماو” بكل بشاشة، الأستاذ يوسف كلما ألتقى به في الصباح الباكر ماضيا للعمل، وفي عيد ميلاد الصادق الخامس، قدمت أسرة “جين ماو” المتمثلة في جين ماو وزوجته إلى الحفلة التي دعاه إليها أب الصادق، وجلسوا في الصالون خجلين من الزحام، ثم قدّموا ملابس أطفال كهدية، وهم يهنئون الأستاذ يوسف بالنطق الإنجليزي المميز للصينيين.
بعد سنوات، أي لاحقاً بعد خروج جميع الأجانب من حي الروس بفترة طويلة، سيسمع كريم من أبيه قصة غريبة حدثت معه مع الجار الصيني.
أخبر الأستاذ يوسف إبنه في لحظة إستعادة للذكريات، قبل أن يموت والد الصادق بالمرض والأهمال والعجز ، إن الجار الصيني الذي كان مشهوراً ببشاشته وإبتسامته، قد تغيّرت حالته فجأة ، أصبح كثير التفكير، الصمت، التجهم، يقول والد الصادق مسترسلاً، عندما كان يراني في تلك الأوقات كان يصنع إبتسامة، لكنها كانت إبتسامة مفتعلة، وأصبح دائم الوقوف أمام منزله للتدخين تاركاً سيارته بدون فعل أي شيء، وبحكم الصداقة أو مقدارها الذي لا يعدو كونها معرفة جيرة، تجرأت لسؤاله عن حاله، وحال إسرته ، وإن كان شيئاً ما يشغله.
” الصين مش كويس .. حال مش كويس مستر يوسف”.
بعدها بسنوات سيعرف والد الصادق ما كان يحدث هناك، حيث أن موت “هو ياوبانغ” أحد المعروفين بتيار الأصلاح في الحزب الشيوعي الصيني مباشرة بعد عزله المهين، أطلق مظاهرات مهولة في ساحة تيانانمن، أغلبهم من الطلاب الذين سأموا ديكتاتورية وفساد الحزب الحاكم.
“يموت البعض وهم يستحقون الحياة، ويحيا آخرون يستحقون الموت”.
هذا ما كان يهتفون به المتظاهرين، في ساحة تيانانمن، أو ما أصبح يعرف فيما بعد بإحتجاجات الميدان السماوي !
أما الذي لم يكن يعرفه والد الصادق في تلك اللحظة، هو أن الجار البشوش “جين ماو” كان أحد ضباط إستخبارات الحزب الشيوعي الصيني، بل وأشرسهم، وإنه قبل أن يأتي إلى حي الروس، كان قد شارك في إعتقال العشرات من معارضي سياسات الحزب، وإنتزاع الإعترافات منهم، قبل أن تحدث الكارثة بموت “هو ياوبانع” التي وضعتهم في موقف محرج !
لكن لم يكن هذا هو الأمر الوحيد الذي يؤرق الضابط الصيني، وفي أحد الأيام الصيفية أستوقف “ماو” الأستاذ يوسف وهو عائد من العمل، يستحثه على الكلام بشكل منفرد، وعندما وقفا بشكل بعيد عن الأسماع في تلك القيلولة الحارة الخانقة، قال له “جين ماو” :
” أرجوا أن تستمع إلي جيداً مستر يوسف، يوجد هنا شخص روسي يسكن في الحي هنا، العمارة التي خلفنا، هو يعمل كقس في الخفاء، لا أحد يعلم عنه، لا السلطات هنا ولا السلطات الروسية، بعض الروسيين المتدينين يذهبون له، وهو يحاول التبشير .. خذ حذرك .. خاصة على الأطفال ! “.
ثم ألحق الضابط التحذير بلهجة محلية ركيكة : ” ردي بالك .. مستر يوسف .. ردي بالك ” .
* * *
والحقيقة أنني لا أذكر هذا الشخص حقاً وهيئته، لكن الصادق أخبرني مرة أنه تذكره عندما روى له أبيه الحادثة، كان شخص ذو جسم طويل ورياضي، أشقر تماماً بشعر أصفر غامق، دائم الإبتسام ببدلته الكاكية التي يرتديها الجميع هنا.
يقول الصادق أنه أحياناً كثيرة، كان يقف بالفعل مواجهاً للساحة الأمامية، ليراقبنا ونحن نلعب عندما كنّا أطفال، بإبتسامة لا تتغير.
ضم الصادق حاجبيه مرّة وهو يتذكر في إحدى المرات الكثيرة التي أستعدنا فيها الموضوع، وقال لي :
” نعم .. نعم .. أذكر مرّة أنه تقدّم نحونا، حتى أصبح بيننا ونحن نلعب لعبة ما، ثم أنه بدون مقدّمات ظل ينظر لك، قبل أن يبتسم وهو يرتب على شعرك، بطريقة طبيعية كأنه ودود مع أحد أطفال الحي”.
لكن في أغلب الأوقات كان الضابط الصيني له بالمرصاد، كان يراقبه من بعيد، وهو يعمل بسيارته، حيث يحرق السيجارة تلو الأخرى، وهو يتمنى أن يجد له شيئاً ما، أو أي دليل على نشاطه السري لكي يبلغ فيه سلطات الحزب، كان يتمنى لو كانت له الإمكانية، لإستعمال “كاوال” سيارته لصعق هذا القس القذر بالكهرباء، أو وضع سيخ الزيت الساخن في مؤخرته، أو إستعمال صندوق عدته الصينية لتفكيكه قطعة قطعة، ونزع الإعترافات منه كما كان يفعل في معتقلات بلاده، لكنه للأسف غير قادر على شيء هنا، إلا المراقبة.
* * *
لكن خلال سنتين من الزمن لم يحدث شيء ذا بال، مضى كل شيء في وتيرته المعهودة، حتى جاءت سنة 1989 م ، عندها كأن شيطانا بحجم الكون قد أمسك عالمنا بكلتا يديه ليرجّه مرة أخرى، وخلال السنوات القادمة، سيقذف الجسد الأحمر قيحه، بعد أن ظل لسنوات تحت نار مرجلة الصمت، مدعيا ثباته، وهو يتلوّى في موته الأخير تحت أقدام العصر القادم.
تجمّع الروسيون رجالاً ونساء في ساحة الحي في ساعة متأخرة من الليل على غير العادة، وهو ينظرون لشاشة تنقل خطاب غورباتشوف المؤثر، عن إنتهاء حقبة، وبزوغ حقبة جديدة، بعد أشهر قليلة سيتم إنتخاب أول برلمان روسي بعد فترة طويلة من التوقف، نفس البرلمان الذي سيتم قصفه بالدبابات من قبل يلسن بعد سنوات، إنهيار جدار برلين، تفكك الإتحاد السوفيتي، العالم يتغير، لكن بعض العقول، ظلت مشدوهة كأصنام في عدم إستيعاب لحظة سقوطها.
لكن لم يتخيل الأستاذ يوسف، وسط هذه الإضطرابات أن يرى الجار الصيني “جين ماو” ينهار أيضاً، رآه في ذلك اليوم يبكي وهو مختبيء وراء سيارته، وعندما رآه الصيني حاول مسح دموعه بعجاله قبل أن يستعيد وجهه الصارم ، ويدخل منزله بدون أي كلمة، بعدها بأيام معدودة، يغادر الضابط الصيني دون أن يودّع أحد، هو وأسرته دون رجعة.
فيما بعد، عرف والد الصادق من جار سوداني القصة كلها، فبعد مواجهات الصين الطلابية التي تم إخمادها 1987 ، إندلعت مظاهرات أخرى بعد عامين، حصلت على دعم كبير من الشعب، لكن في يوم 4 يونيو، تقدمت القوات العسكرية الصينية لتسحق المتظاهرين بالدبابات في ميدان السماء !
لم يصدق أحد ما حدث، لم تبقى سوى صور رجال يكتبون كلماتهم الأخيرة على صدورهم، وصورة رجل يقف أمام دبابة، أما الضابط “جين ماو” فقد تلقّى الخبر، أخيه الأصغر والمقرب إلى قلبه كان ضمن الطلبة الذين قادوا المظاهرات ضد الحزب الحاكم، قبل أن تصبح أجسادهم جثثاً هامدة دهست تحت جنازير الحزب الشيوعي.
بعد رحيل “جين ماو” ، وخلال سنوات بسيطة سينهار كل شيء، ستبدأ الجالية الروسية التي أقامت سنوات في حي الإسكان العسكري بالرحيل، وسيتم إحلالهم بالمواطنين المحليين، رويداَ رويداً ، يصبح حي الروس إسماً فقط، وتبدأ المطارق الكبيرة في تكسير البلكونات الأرضية لإستبدالها بديار التقعميز، وتبدأ المناجل في قطع الأشجار والحدائق، وترتفع العواميد، لبناء الحبيلات، والأسوار حول العمارات.
* * *
تبدأ القصة عندما يزرع رب البيت بذرته في أرض زوجته، تنفلق البذرة لتخرج بدل الثمرة ثمرتين كرويتين تتدحرجان في البيت، يأتي الأب بعصاه التي توارثها من آباءه وأجداده جيل بعد جيل، ليضربها في الأرض، ينقسم المشهد فيقذف بكرة على اليمين ويصبح إبناً ، وتقذف الكرة الأخرى يساراً فتصبح فتاة، لا يلتأم الشق أبداً، تكبر الفتاة في عالم لوحده بقوانين خاصة، ويكبر الإبن في عالم آخر بقوانين أخرى، يخرج الطفلان للعالم الخارجي، فيجدونه مقسّم أيضاً، لابدّ أن عصا أكبر من عصا الأب ضربته هو الآخر.
بعد سنوات قليلة، سيخرج الإبن إلى الخارج، فتتعشّق به جذور خارجة من أرض المجتمع، تخترق الجذور بممصاتها أقدامه، وتبدأ في ضخ سوائل الرجولة والفحولة والشرف وأخلاق العار والعيب، ينتفخ الإبن، يصبح جسده ثقيلاً، وغير قادر على المسير. وحين تهم الفتاة بالخروج، يسقط سياج حديدي من السماء يسد طريقها، ويعلن أنها أصبحت السجينة الألف بعد المليار.
لا تخرج الفتاة من سجنها، تصبح سجينة العقل لا سجينة الدار، ممصات الجدران أيضاً تزحف نحوها لتخترق جسدها، ما في الخارج يكمله ما في الداخل، لعبة قررها الأب منذ البداية، كلعبة الليل والنهار، يخور جسدها شيئاً فشيئاً، يضمر ويضمر حتى لا تراه، تصبح رؤية الجسد خطيئة، الإحساس به خطيئة، والحديث عنه خطيئة.
لكن في لحظة من الزمن المتدفق، ينزل الملاك، ولنكون أكثر دقة فهو لا ينزل من السماء، ولكنه يسري من خلف البحر، يأتي كنسيم منعش، يحط على الدار، ويخترق سياجها بدون صعوبة، ويقفز من النافذة، ليقع بين يدي الفتاة، يتحول إلى هاتف، إلى باب على العالم، إلى ثقب في الجدار، إلى صعقة كهربائية تضرب جسد الفتاة، التي أستفاقت ونظرت إلى عالمها أول مرة، بعدما سقطت كل جدران ورق الحائط المزيفة.
عندها تفكّر الفتاة في الخروج من هذا السجن، تحاول لألف سنة حتى تجد البوابة، تجدها، تترقرق عيناها بالدموع ، إنه الخلاص ، إنه الخلاص، تهرول مسرعة، لتجد الإبن يسد الباب، بعد أن أصبح جسده المتضخم بكبر البوابة.
* * *
كانت الأرض تئن بفعل جسد “نادية” المجرور عليه ، من قبل أخيها الذي يمسكها من شعرها كممسحة، كان وجه “نادية” ينزف من كل إتجاه ، وكان جسدها بلا أي مقاومة، بعد أن أشبعه الأخ ضرباً وركلاً، في لحظة إكتشافها ملطخة بالخطيئة، لكن الخطيئة لم توجد فجأة، الخطيئة نمت في الأفواه أولاُ ، وتناقلتها الأمهات الثرثارات في الأعراس والعزاوات، الخطيئة مصمصتها الشفائف أولاً، ورددتها تمائم السترة والشرف، حتى أصبحت الخطيئة واقعاً لا كائناً أسطوري.
دخل الأب مهرولاً للبيت بعد أن فقد عصاه منذ زمن، ليجد أخ نادية وقد ربطها كنعجة مسكينة، وعلّقها ليستعد لذبحها، “قحبة .. قحبة ” ، “شن تدير يا مهبول” ، صرخ الأب، “قحبة .. زانية .. شوفتها بروحي .. شديتها بإيديا” .. الأخ الذي أمتلك الخلافة منذ الخلق، ظل الأب في الأرض، يستعد لتنفيذ حكم الإعدام، لكنّ الأب لم يتحمّل المشهد، هي إبنته التي تعب في تكوينها حتى وجدها كائن بالغ، أتنتهي بهذه الطريقة، أتنتهي قصتها بهذه البساطة، قاوم الأب الوحش، قاومه دون أن يعي ما يفعل، تعالت الصرخات، بين الجسد المسحور المتملّك كلياً من ثقافات آلاف السنين، وبين جسد الشيخ المتهالك الذي يكاد يندثر، بين جسد الرسالة، وبين صاحب الرسالة، بين السبب والنتيجة، بين الفهم وسوء الفهم، لم ترى نادية المشهد، بسبب عيناها المغلقة، والمليئة بالدماء، لكنها سمعت صوت الرصاصة.
ضرب الصوت المكتوم الجسد، خرّ الجسد متهاوياً، أسقط الإبن الأب، سقط الأب صريعاً، مات الأب، وفرّ الإبن بخطيئته بعد أن قتل أباه، بعدها أختلفت الأقاويل وتعدد الرواة، بعضها قال إن الإبن كان يحاول عبور بعض الطرق الريفية ليهرب خارج الحدود، حينما إعترضته ميليشيا دينية يحكمها شيخ بقلب سفّاح، يقال أن الشيخ نظر في عينيه وقال له أنت قاتل أبيك، ثم أمر رجاله بوضع رقبته على جذع شجرة وحدّها بالسيف، وبعض الأقاويل الأخرى تخبرنا بإن الإبن هو من أصبح هذا الشيخ، وكان له رجال بعدد نجوم السماء، لكنهم دخلوا يوماً لإيقاظه ليجدوه قد شنق نفسه عارياً وقد كتب على ظهره بالخنجر “قتلت أبي” ! ، لكنّ المؤكد أن الأخ لم يظهر مرة أخرى، وأنه إنتهي في هذه القصة إلى غير رجعة.
* * *
يتقدم صوت الكعب النسائي على أرصفة شوارع حي الروس البالية، حتى يتوقف أمام “الصدارة نت كافي”، تولج نادية المفتاح داخل الثقب وتفتحه بعنوة، تلتفت إلى العيون الشاخصة، فتشيح الوجوه وتنكفئ، بإبتسامة ظافرة تدخل، تستمر في مضغ علكتها وهي تجلس لتستريح، وتفكر في هذا المشهد اليومي الذي يمر بها، فمنذ أن بدأت العمل هنا، وهي تحظى بنفس ردود الأفعال المعترضة، والمستنكرة، تخرج من البيت ينظرون لها، تعود، يراقبون، ومنذ أن سقطت البوابة، وأختفى الأب وظله إلى غير ورجعة، ونادية تتعلّم أنها خرجت من قفص لتدخل قفصاً أكبر، وأنها خرجت من سلطة لتعاقبها سلطة، وأن عقاب من بقى في كهف مظلم لأعوام طويلة، هو أن تحرق عيناه الشمس لحظة أن يخرج.
بحثت نادية على عصا الأب لتستند عليها فلم تجدها، لم تجدها في البيت، ولم تجدها عند الأم، الأم نفسها كانت محطمة وبلا أي قوة تسنتد عليها، رحل الأب وأخذ عصاته معه، عملت الأم في البداية كمنظفة بيوت، لكنها سقطت بعد فترة وجيزة، ولم تستطع أن تكمل، ولم يعد أمام نادية إلا البحث عن عمل لتحيى به، وتترك دراستها التي لم تكن تحبّها من الأساس، وهكذا وجدت فرصة في مقهى الإنترنت هذا، الذي ليس بعيداً عن البيت، تفتح المحل، تنظف الكمبيوترات وتسمحها قبل قدوم الزبائن، تشرف على القادمين، وتطفئ الكمبيوترات مع صاحب المحل قبل أن يقفله بنفسه.
رغم ذلك، نمت فجوة كبيرة داخل نادية، فجوة مظلمة ظلت تنمو كلّ يوم، وترافقها وهي تنهض مبكراً لإعداد الفطور، وهي تشتري ملابسها من محلات المدينة، وهي تضع أحمر الشفاة، ويبدو أن مصدر هذه الفجوة ناجم من السجن الذي بناه الأب لسنوات طويلة ثم أختفى فجأة، وهذه الفجوة هي كانت المسؤولة عن وقوع نادية فريسة الخديعة، وإقترابها بكل صدق للشراك التي نصبها لها إبن صاحب المحل.
أعتقدت نادية أنه يمكن سد هذه الفجوة بسهولة، لكن الفراشة التي طارت بدون خبرة مسبقة، هوت بسرعة، وتوهمت أن كلمات الغزل والتقدير وإعطاءك مكانة مميزة لا يضاهيك فيها أحد قد تذيب هذه الفجوة للأبد، لكنها لا تسبب لك سوى فجوة أكبر، تصبح كالفأر المخدّر بسمّ الأفعى، بجسد يسحب رويداً رويداً نحو الإبتلاع دون أن تشعر بأي ألم أو خطر، وهكذا وجدت نفسها نادية بجسد عاري فوق إحدى طاولات محل الكمبيوتر، في ساعات الليل المتأخر، يتم دكّها بقوة من قبل الإبن، دون أن تشعر بأي ضرر، كان جسدها يهتز مع الطاولة، تعتصر شفافها، ووجهها ملتصق بسطحها، لكنها لم تشعر بأي شيء، سوى إحساسها بأن داخلها يمتلئ، وإحساسها بالطمأنينة.
* * *
أنتشرت أخبار نادية بين شباب الحي وأصحاب ذلك الشاب الذي أسمته نادية بولد القحبة لاحقاً، الذي لم يكتفي بضربها وإهانتها في علاقتهم التي صاحبها الكثير من الجذب والرد والدّك، بل عمل على المفاخرة ببطولاته التي كان يقوم بها فوق طاولة الكمبيوتر، ومع من كان يفضل بتسميتها بـ “الألعبي” ، وهكذا إنتهت العلاقة بعد أن تلقت نادية درسها الأول.
في درسها الثاني، كان الأمر أكثر صعوبة، والتي تمثّل في رجل آخر يدخل حياتها فجأة بعد إنكسارها الكبير، كانت نادية في ذلك الوقت حديث الحي، موصومة من قبل الجميع، الكل بنظر لها بشيء من الإشمئزاز والنظرات القذرة، لكن هذا الشاب مختلف، هو يدافع عنها لا يشتمها، يقترب منها فيما يبتعد الآخريين، يقبلها كما هي، يخبرها أنه غفر لها ما حصل في ماضيها، وأنه لا يوجد إنسان بلا أخطاء، تتمنع في البداية، فيحتويها، يعتريها الخوف فيطمأنها، تماطل ، فيكون صبوراً معها، ولأنها مجروحة وخائفة، وصغيرة، ومكسورة، ولأن الأمل هو آفة الإنسان الأولى قبل النسيان، ترخي دفاعاتها وتدخله لقلبها.
لكن الدرس الثاني ـ والحق يقال ـ لم يكن في حقارة الأول، فهو لم يضربها، ولم تكن أحاديث رفقاءه المسلية، فقط هو إختفى، ثم أنه أرسل لها بعد فترة رسالة يعتذر فيها عن رحيله، وأن حياته وظروفه الصعبة، وأهله المتدينين لن تكون في صالحها، هو فقط إختفى، إختفى وكسر قلبها برقة، وقد قررت أن تشكره حقاً على هذا اللطف، باقة ورد، قد تكون كافية للتعبير عن ما فعله، هذا ما فكرت فيه نادية.
ثم أن شيء ما في قلبها قد مات، كما أن جلدها قد أصبح أسمك، وفي أزقة حي الروس القذرة التي أصبحت سجنها الثاني التي لم تستطع مغادرته، تقبلت ماهيتها الجديدة، وقبلت الدور الذي رسم لها من قبل المجتمع، حتى أقنعت به، نعم ، أنا هفكة، لكن المرة هادي أنا هفكة حقانية، هفكة لحمي مر، والمرة هادي حتدور اللعبة زي ما نبي أنا ، هكذا قالت نادية، لا شيء بدون مقابل منذ الآن.
* * *
وفي سنوات قليلة، تتقن نادية اللعبة، وإن كان المجتمع قد شيّئها سلعة، فلكل سلعة ثمن، ولكي يكون الثمن غالياً، عليك أن تتقن فن التسويق، وأول ألعاب التسويق هو التوفر في وجود الندرة، ، وهكذا تتحول نادية، من الفتاة المكروهة في الحي، إلى المرأة المرغوبة من الجميع، والذي يسعى الجميع للوصول إليها فلا يستطيعون، فنادية ليست إلا للخواص، وللمميزين، ومنذ تلك اللحظة، أنقلب حال الحي، وأصبح الشباب البائس الحقير الملفوظ في الشوارع، والذي كان بالأمس يسخر منها ويحتقرها، اليوم ينظر لها بإشتهاء وتطلّع، وهم يرونها لا ترافق إلا رجال يملكون المال، ولهم سمعتهم القبلية والعائلية الحساسة، أصبحت نادية بالنسبة للجميع، حلم صيفي جميل، يحلمون به وهم نائمون مع زوجاتهم الباردات، يتبادلونه همساً، وهم في لقاءاتهم الخاصة، ومن يصل إليها مانحة إياه ليلة العمر، يقضي أشهراً وهو يسترجع تلك اللحظات، ممنياً النفس بلقاء آخر.
أما نساء الحي الحقودات، فقد جنت ما صنعت أيديهم، فهم أول من لاكوا سيرتها بين الألسن، وأول من همسوا بالحادثة المشؤومة التي كلفت ندى حياة أبيها وأخيها، هن من صنعن الوحش، والآن حان موعد رد الدين، فأصبحت نادية هي حلم أزواجهم، ومانحة السعادة لهم، تلك التي لم يعرفن هن كيف يصلن لها،
لكن هاتن الحقودات الهفكات لن يسكتن، فتسربن من بين سرائرهم الباردة، ليتصلوا مع رجال غرباء، رجال أقل شأناً لم ينلن الفاكهة المحرمة التي كانت تدعى نادية، دفئت الحاقدات الخائنات سرائر الرجال الوضعاء، الرجال الحقودين، رضعت الحاقدات من بين أفخاذهم المزيد من الحقد، فأصبح الحقد مضاعفاً، نمى الحقد وتدفق في العروق، فأزهر الشرف الكاذب، وأتفق عاهروا وعاهرات الخفاء فوق مسرح سرائرهم أن يلعبوا أدوار الشرفاء.
وهكذا أصبح الغضب يكبر رويداً رويداً في الحي، ويمد جذوره ويتشعب كلما كبر الحقد على نادية، تراكم أكثر فأكثر، تمدد وكبر ككرة الثلج المتدرجة، وبدأت الأصوات تعلو للقيام بشيء لوضع حد لهذه المهزلة، وليطهّر الحي من الرجس والدنس الذي لحق به.
* * *
وفي ليلة بدون قمر، خرج سكان الحي كأمواج هادرة من بيوتهم، يتقدمون نحو بيت نادية، خرجوا والشرر يتطاير من أعينهم وهم يحملون بإيديهم السكاكين والهراوات عازمون على محو العار وتنفيذ القصاص، كانت ليلة صاخبة لم يشهد الحي مثيلاً لها، أستفاق كل الحي، وكانت النوافذ كلها مشرعة وهي ترى مسيرة الغضب الماضية نحو بيت العاهرة، كان صوت أقدام الجماهير المتعطشة مدمدمة ومرعبة، وتحكي حكاية لن تكون نهايتها سعيدة.
حينما وصل السكان الغاضبون إلى بيت نادية، لم يقرعوا الجرس، حطموا الباب فوراً بأقدامهم ودخلوا كالمجانين، ووسط ذهول الأم المكلومة العاجزة، أجتذبوا نادية من فراشها بقميص النوم، جرجروها من شعرها، وألقوا بها خارجاً، وأصبحت الأيادي تتجاذب جسدها، وتدفع به بكل قسوة وشهوة لساحة الحي لكي تنتهي هذه المأساة.
كانتا نظرة عينا نادية حادة منذ أن وجدت نفسها بين هستيريا الجماهير الغاضبة، لم تصرخ ولم تستجدي أحداً أن يتركها، كانت الدموع تنحدر غضباً منها، لكنها كانت تنظر لهم بتحدي، وهي تحاول أن تمنع جسدها أن يتعرّى لهذه العيون الجائعة التي تشتهيها بشدة.
حين وصلت إلى ساحة الحي، كانت قد أسلمت نفسها للموت، أغمضت عيناها وتمنت أن يأتي سريعاًً، كانت الجماهير مترددة ومتجمدة من شجاعتها وقوتها في مواجهة الموقف، كانت تقف وحيدة، ضد هذا الجمع الغفير، ودون أن تصدر أي صوت، لكن أحد الجماهير صرخ فيهم محفزاً، .. أرجموا العاهرة .. أجمعوا الحجارة .. وأرجموا العاهرة !!!
* * *
ـ [ توقّفوا … ] ..
سمع الجميع الصرخة فتوقفوا، فتحت نادية عينيها لترى المعجزة، شخص خرج من عتمة الليل، ليقف أمامهم، ليحول بينهم وبينها، ويقول :
ـ ما فيش حد يتجرأ ويحط إيده عليها، أو حتى يلمسها ..
لم يكن هذا الشخص سوى الصادق، الصادق الذي تقدّم أمامهم ليقف في مواجهتهم ويقول بلهجة عالية آمرة :
ـ كل واحد فيكم يرجع لمكانه، وبهدوء شديد… هذه البنت من الآن وصاعداً في حمايتي وتحت عهدتي.
كان الصادق يقف أمامهم، كما وقف رجل في لحظة ما، أمام دبابات الجيش الصيني في ميدان السماء ، كان الصادق يقف وحيداً، لكنه يشعر بأن آلاف المتظاهرين معه، آلاف المتظاهرين الذين كانت صدروهم العارية محملة بشعاراتهم عن الوقوف في وجه الظلم والدكتاتورية والتسلط، آلاف الخارجين من شوارع الحي ضده ، آلاف المتظاهرين في ساحة تيانانمن معه.
“يموت البعض وهم يستحقون الحياة، ويحيا آخرون يستحقون الموت”.
قال أحد أصحاب اللحى وهو يبتلع ريقه :
ـ أبتعد يا صادق يا ولدي، ما تبوكش تتأذى أو تضر سمعتك دفاعاً على هذه .. هذه العاهرة.. خلينا نطهروا الحي من الدنس..!
وقال آخر :
ـ ما تلوثتش سمعتك وسمعة عيلتك يا صادق.. بوك الله يرحمه ما كان يرضى بيه الكلام هذا !
وجاء صوت من بعيد :
ـ أنت من السكان القدم يا صادق، لوّح عليك.
نظر لهم الصادق نظرة واحدة فقط ألجمت ألسنتهم وخلعت قلوبهم، فتح الصادق شفاهه فنبت الكلام في فمه شجرة عملاقة ألقت بعصفها :
ـ تبّي تنظف الحي من الدنس والرجس يا حاج محمد !! ، وعلاش ما تبداش بنفسك يا شيخ..، وإلا تحسابني ما نعرفش شن درت وفعلت .. وإلا تحسابني ما نعرفش تاريخك وحاضرك..
إبتلع الشيخ ريقه بصعوبة، وكأنه يبتلع كرة نارية داخل حلقه، نظر للصادق في هلع، وهو يواصل مشيه بجانبهم وصراخه هذه المرة على الجمع :
، تحسابوني ما نعرفش خطاياكم وخفاياكم .. كل أسراركم عندي أيها الحي النجس ، كل حكاياتكم القذرة ، كل علاقاتكم المشبوهة وأموالكم الفاسدة، وأرواحكم العفنة .. أنا هو تاريخكم الذي تخفونه .. أنا هو حقيقتكم العارية .. أنا أقدم ساكن في هذا الحي .. أنا هو ذاكرتكم المثقوبة !
تابع الصادق وهو يكشف التاريخ المنسي :
ـ تبو نذكركم بشن درتوا بعائلتي .. تبو نسميكم واحد واحد .. الناس اللي مدايرة روحها توا أولاد بلاد .. ومتأصلة .. الناس اللي مدايرة روحها توا شيوخ وعندها مفاتيح الجنة .. الناس اللي توا مدايرة روحها من أبناء العائلات ومأصلة بالأخلاق والحسب والنسب .. تبي نفكركم .. ونعريكم .. يا اللي زحفتوا على أملاك الوالد وصادرتوها وأممتوها .. تبي نفكركم بمن وين جاكم العز وأنتم كنتم بكنادر منقوبة .. تبو نذكركم بعائلاتكم الفلاّقة اللي جونا حفاية وبحوايج واكلها الفار وشابع منها .. أي واحد مداير روحه راجل يقدّم توا خطوة خلي نعريه .. ونعرّي جذوره من وين ما نبتت …
صمت الجمع المجتمع ، جاؤوا بشهوة تعرية الفتاة المسكينة، فوجدوا أنفسهم في خطر التعرّي، خافوا أن تنكشف عوراتهم ولم يكثرتوا وهم يتلمسون جسد نادية لتعريتها، لكن الصادق كسرهم، هزمهم، ولذلك تراجعوا مهمهين ” ستندم .. ستلوّث سمعتك .. عيب ” .. لكنهم لم يملكوا سوى التراجع، رويداً .. رويداً .. ذهبوا حتى فض الجمع ، وهدأت الثورة .. وأنحسرت.
ودون أي كلمة .. أخذ الصادق نادية من يدها .. نظر لعينيها .. رفعها .. وقال لها قبل أن يذهب جملة واحدة فقط :
ـ غدوة الصبح تعالي إلى محل التصوير .. من غدوة تبدي بداية جديدة .
* * *
أي معين يعينني على كربي ، لا أحد ..!
لا أحد ، لا الزوجة ولا الصديق ، لا أحد يريد أن يصدّقني، لا أحد يريد أن يصدّق أن هناك صخرة فوق أكتافي ، أنا لم أختر صخرتي ، لكني حملتها رغم كل شيء.
كنّا وحيدين في غرفته ننظر إلى بعض، كان ينفث دخّان سيجارته في عصبية، وحركات قدميه تنبيء أنه يعلم أنني سأغادر، هو لا يريد المضي قدماً معي، وأنا لابدّ لي من المسير.
قلت له بكل بساطة :
ـ غداً سأغادر .
لم يرد ! ، لم يتكلّم معي، فقط نهض ، ثم أنه أخذ يفتّش في أدراجه المتهالكة حتى أخرج مظروف رسالة مهتريء ، مدّه لي بيد تحمل السيجارة ، ثم أخذ نفساً منها، وهو يقول :
ـ هذه الرسالة لك.
أجبته مستغرباً : ممّن ؟
قال لي وهو يعتريه نفس الفضول :
ـ هل تتذكّر ذلك القس الروسي الذي كان يشاهدنا ونحن نلعب .
ـ نعم !
تابع وكأنه يحكي شيئاً عجائبياً :
ـ كنت منذ سنوات بسيطة في رحلة إلى سوريا لغرض التجارة ، وألتقيته بالصدفة ، هو الذي تعرّف علي حقاً في جمع، وعندما عرفني، سلّمني هذا الظرف وترجّاني أن أسلّمه لك..!
من هول ما أسمعه ، لم أستوعب ما قيل .. بسرعة وبدون تفكير .. أخذت سكين مطبخ ملقى على الطاولة أمامي، وفضضت الظرف كاشفاً عن الرسالة المكتوبة بعربية سليمة..
ولم أصدّق ما قرأته ..
نعم، لقد رآها .. لقد رآها حقاً .. منذ كنت طفلاً ذو بضعة أعوام .. لقد رآى صخرتي .. لقد رآى صخرتي فوق كتفي حقاً .
* * *