سلاسل : قصة الشريعة

تسببت فكرة تطبيق الشريعة منذ ظهورها كأيدولوجية وحتى وقتنا الحاضر، حالة من الإحتقان في أغلب بلدان العالم، حروب أهلية وإنقلابات وعنف وجماعات إرهابية ترى في نفسها الحق في شن حرب عالمية مقدسة لفرض هذه الفكرة، بالمقابل جندت دول نفسها في محاربة هذه الجماعات مستنزفة الميزانيات في العتاد والأمن والإستخبارات. لكن السؤال ظل، ما هو تاريخ تشكل هذه الشريعة، وما هي قصتها، وهل هي أمر إلهي أو نصوص كتبها رجال من أزمنة مختلفة..!!

88241859_10159339297319692_1170686829372899328_n

الجزء الأول

عمر بن عبد العزيز .. نقطة البداية

كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر ابن حزم : “انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ولا تقبل إلا حديث النبي ولتفشوا العلم ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا”..

بهذه الرسالة أعلن عمر بن عبد العزيز وهو ثامن الخلفاء الأمويين عن إنطلاق مشروع تدوين الحديث رسمياً.. بعد تخبّط كبير وإختلاف بين تدوينه وعدم تدوينه بين الصحابة.. أو منعه من قبل خلفاء بني أمية .. فلماذا بدأ الأمر عند عمر..

لكن قبل المضي قدماً، ومحاولة الإجابة على هذه الأسئلة، علينا أولاً وضع منهج علمي للتفكير في كل ما نقرأ ونسمع، وعلينا مراجعة كل ما يصل إلينا، لرسم خط زمني للأحداث، والإنتباه لفكرة، متى ظهرت هذه الرواية، وليست متى قيلت !

هناك خطأ شائع لكنه شنيع، ويوقعنا دوماً في فهم مخادع، وهو أننا نقبل الرواية والخبر، وكأنه حقيقة واقعة حصلت في زمنها، كأننا نشاهد حدث سينمائي، دون سؤال أنفسنا، كيف وصلت إلينا هذه الرواية !، وفي أي زمن ظهرت وشاعت.

 في بداية المقال ، أنا قلت لك كتب عمر رسالة لأبو بكر ابن حزم .. فمن أخبرنا بهذه الرسالة.. وهل يوجد مخطوطة لهذه الرسالة.. عليك دائماً الإنتباه عند أي قول أو خبر أو قصة.. من أخبرنا بها .. وهل يوجد أي مخطوطة أو قطعة أصلية للكتابة.. في حالتنا هذه،  القصة أخبرنا بها الإمام البخاري في كتابه فمن أين أخذها الإمام.. وفي أي كتاب كتبها .. وهل يوجد مخطوطة أصلية لكتاب البخاري في نفس فترته الزمنية التي عاش فيها..

علينا دائماً التفكير في كيف وصل إلينا هذا القول.. والإنتباه للفجوات الزمنية.. ومن كتب الكتب المنسوبة للفقهاء.. هل الفقهاء أنفسهم أم تلاميذهم.. وهل هذه الكتب نسخ أصلية أم كتب منسوخة من النسخ الأصلية .. وأين هي النسخ الأصلية.. علينا دوماً التدقيق في مسار القصة حتى لا نقع في فخ الوهم.

طبعاً نحن نعرف أن الخليفة عمر بن عبد العزيز لم يتجاوز السنتين في حكمه ثم تمّ إغتياله، فلم يجد إبن حزم الوقت الكافي لإرسال عمله لعمر .. ثم جاء الخليفة اللي بعد عمر وهو “يزيد بن عبد الملك فعزل “إبن حزم” وأبعده .. وبهذا قضى على المشروع تماماً ..

لكن يبقى السؤال هنا .. لماذا كان عمر بن عبد العزيز دون غيره من خلفاء بني أمية أول من بدء بهذا المشروع .. من وجهة نظري فإننا لو نظرنا للتكوين الإجتماعي لهذه الشخصية فإننا سنجدها مختلفة عن البيئة التي كان بها باقي ملوك بني أمية .. ( فهو تربي وعاش عند أخواله أل الخطاب في المدينة..فعمر إبن الخطاب هو جد أمه، كما أن عمر بن عبد العزيز كان مشهوراً بالورع الشديد والتقوى والوازع الديني القوي الذي لديه، وهو ما جعل الهاجس الديني مسيطراً على حياته، فكان مختلف تماماً عن إهتمامات ملوك بني أمية اللي سبقوه.. وهو ما عجل بإبعاده عن السلطة والحياة برمتها ..

إذن فقط كان عمر بن عبد العزيز أول من أمر بتدوين الحديث عند توليه الحكم.. أي بعد حوالي 90 سنة من وفاة الرسول .. الحديث ( كلام الرسول ) اللذي يشكل أحد الأعمدة الرئيسية للشريعة الإسلامية، وبعد سنتين فقط، يموت عمر بن عبد العزيز وتتوقف أول محاولات تدوين الحديث بشكل كامل.

لكن السؤال المهم الذي لم نسأله هو ، قبل هذا التاريخ كيف كان يحكم المسلمين .. كيف يحكم المسلمون بالشريعة وهي لم تظهر بشكل رسمي ولم تكتمل بعد .

السؤال مهم .. والإجابة بسيطة جداً .. كانوا يحكمون بالقرآن وما حفظوا من أحاديث أو مواقف للرسول وفقاً لإجتهاداتهم .. لم يكن هناك كتب مدونة أو شيء رسمي موحد للكل.. خاصة بعد إتساع رقعة البلدان المحكومة من قبل المسلمين .. فكان كل قاضي أو فقيه يحكم من إجتهاده الشخصي من القرآن وما وصله من أحاديث .. ولهذا ظهرت ظاهرة إختلاف الحكم من مكان إلى آخر .. فما يعرفه هذا الفقيه أو القاضي قد لم يصل إلى القاضي في المكان الآخر.. لم يكن هناك إبن حنيفة أو الشافعي أو إبن مالك ولا مذاهب ولم يظهر علم الفقه أساساً ولا ناسخ ولا منسوخ ولا البخاري و لا شيء ..

 

ضع في ملاحظتك أيضاً أن تلك الفترة كان الجميع منشغل بالصراعات الدينية والأهلية وحروب على السلطة وتشكل حركات الشيعة والخوارج وثورة إبن الزبير وغيرها من التوترات التي كانت تحول دون أي تواصل حقيقي لوضع أساس تشريعي واحد للجميع.

أي أن الشريعة بشكلها الحالي لم تولد بعد ..

 

والآن .. ماذا حصل بعد موت عمر بن عبد العزيز .. الحقيقة لا أحد يعرف .. لكن القرطبي في كتابه (جامع بيان العلم وفضله) يروي أن بعد موت يزيد ابن عبد الملك تاسع الخلفاء الأمويين وفي عصر هشام بن عبد الملك عاشر الخلفاء الأمويين .. أتى شخص آخر إسمه إبن شهاب الزهري وقال بما معناه لماذا لا نكتب الحديث إلا حين يطلب منا الملوك ذلك ، إذن سأبدأ أنا بالكتابة ..

 

( مرة أخرى لابد أن ننتبه .. متى ولد القرطبي وكيف عرف هذه القصة ..وكتابه جامع بيان العلم وفضله .. هل يوجد له نسخة أصلية (مخطوطة) ؟! ومتى خرجت هذه النسخة المطبوعة الورقية وكيف نسخت.. )

وحتى أريحك من كل هذا العناء، سأفاجئك بالقول، بإنه لا يوجد أي كتاب وصلنا للأحاديث من تلك الفترة، حتى نهاية العصر الأموي، ولا وجود لأي كتب أو مخطوطات من أبوبكر بن حزم، ولا أي كتب أو مخطوطات من إبن شهاب الزهري.

 

 
ومرة أخرى يؤجل هذا المشروع إلى العصر العباسي اللذي بدأ تقريباً بعد 130 سنة من وفاة الرسول ..