ثقافتين

وأنا لم أكن إلا نتاج صراع بين ثقافتين ..

لن أخفيكم الأمر، وعكس ما تبدو عليه الأمور من الخارج، كان بيتنا دائماً يعجّ بالصراخ والخلافات والتنافر، عشت وسط كلّ هذا، معارك يومية بين أبي وأمي، ما تلبث أن تهدأ حتى تشتعل من جديد، لم نكن يوماً ذلك البيت الهادئ الذي كانت الناس تعتقده، والسبب هو تلك الفجوة الحضارية بين أبي وأمي.

كان أبي ينتمي إلى أحد تلك القبائل الصحراوية المتحضّرة والمتقدّمة، وفي زيارة من زياراته لإحدى المدن، إلتقى بأمي، المنحدرة من إحدى الأسر الأوروبية البالية، التي أستقرت في إحدى المدن المهجورة بعد نزوحهم من أوروبا، كانت الفجوة بين أمي وأبي كبيرة، لكنهم في البداية أقنعوا أنفسهم أن الحب قد يلغي تلك الفروقات ويصنع المستحيل.

لكن المستحيل لم يحدث، وأصبحت الحياة بينهم، خاصة بعد مجيئي، مليئة بالمشاكل والخلافات، كانت الخلافات تحدث لأتفه الأسباب، ورغم مجيء أمي مع أبي للعيش معه في نظامه القبلي المتحضّر في الجنوب، إلا أنها ما زالت تحن إلى عاداتها المدنية البالية، الأكل على الطاولة تصرّف متخلف ما زالت تقوم به لوحدها، مستخدمة فيه تلك الأدوات الحديدية البالية، بينما يبدو أبي من بعيد ينظر إليها بإشمئزاز وهو يأكل طعامه على الأرض بكلتا يديه.

في ذلك اليوم، ضبطها أبي وهي تمشي بحذاء في حديقة المنزل، سمعته يومها يصرخ فيها : ” وماذا لو تسرّبت لك صورة بهذا الشكل من الجيران على جهاز الغراموفير ؟! ” ، بكت يومها أمي كثيراً، وحرصت ألا تكررها.

لكن رغم كل شيء، كانت مشاكلهم في حدها المسموح، حتى ذلك اليوم المشؤوم، حينما قرر الجنرال جوجاني المنحدر من أحد أعرق القبائل المتقدّمة، قرر القيام بحملة “فكرية” ضخمة ، يجتاح بها بقايا سكان المدن المهجورة لإعادتهم إلى حضيرة التقدّم.
في البداية كانت أيام قاسية جداً، ورغم تخلف “المتمدنين” لكنهم كانوا يستعملون أجهزة السايبر فوتون لإيصال آلامهم من هذه الحملات التي تريد مسح فكرهم الرجعي، وأصولهم العقيمة، لكن الجنرال كان يقول دائماً أنهم يعطّلون مسيرة التقدّم، وأننا لابدّ من ردم هذه الفجوة، وإعادتهم إلى حضن التقدّم، وإلا سيظلون دوماً، يجرّوننا إلى الوراء.

ومع الوقت، دارت نقاشات وخلافات أكبر في بيتنا، كان أبي مؤيد لما يفعله الجنرال جوجاني، ويتباهي دائماً بما وصلت إليه حضارة الجنوب من تقدّم معرفي كبير، في حين تعبت أمي من النقاش والخلافات التي لا تنتهي، وقررت أن أهلها المتخلفين من بقايا مدنية أوروبا المنتهية هم الأولى بالإنحياز من زوجها المتعجرف، وفي هذه اللحظة تركت أمي المنزل وحدث الإنفصال.

لم تمضي فترة طويلة وقبل حتى وصولي لسن النضج الفكري المنصوص عليها في الشرائع القبلية لمجموعات الـ LGCF ، تركت أنا أيضاً البيت، ذهبت بعيداً بعيداً وأنا يملأني الغضب من أنانية أمي وأبي التي أججها صراعهم دون الإلتفاف لي، رحلت بعدد الكواكب والمجرات، رحلت وبدأت في تأسيس جماعات فكرية جديدة أكثر تقدمية من أفكار أبي القبلية الحديثة، وأكثر أصالة من مدنية أمي التراثية المهترئة، شيء آخر ، طريق ثالث يتجاوز كل ما حدث.

الآن بعد عشر سنوات بارومترية عدت، بعد أن إنتصرت أفكارنا وإرادتنا التي نادينا بها منذ زمن، عدت بعد الأفكار المفرحة التي تلقيّتها، وعندما دخلت منزلي من جديد، وجدت أمي وأبي في بيتنا معاً، يستقبلانني ويحتضنانني بكل فرح.

” تمت “.